-
بى دى اف
-
نص
-
الخِلَافَةُ: هِيَ أَنْ يَصْطَفِيَ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ رُسُلًا يَكُونُونَ خُلَفَاءَ لَهُ فِي بَنِي البَشَرِ، يَنْقُلُونَ أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ بِوَحْيٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ.
الخِلَافَةُ الإِسْلَامِيَّةُ: يُقْصَدُ بِهَا نِظَامُ الحُكْمِ المُتَّبَعُ لَدَى المُسْلِمِينَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ ، حَيْثُ يَخْتَارُ المُسْلِمُونَ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلًا يَكُونُ خَلِيفَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ ، يَحْكُمُ بِمَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَرْتَضِيهِ المُسْلِمُونَ، وَيُبَايِعُونَهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ إِذَا التَزَمَ بِمَا أَمَرَ اللهُ، وَيُسَمَّى هَذَا الرَّجُلُ المُبَايَعُ -المُنْتَخَبُ- «أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ». وَقَدْ مَرَّتِ الخِلَافَةُ الإِسْلَامِيَّةُ عَبْرَ تَارِيخِهَا الحَافِلِ بِأَطْوَارٍ عَدِيدَةٍ: فَنَرَاهَا تَبْدَأُ بِعَصْرِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، يَلِيهِ عَصْرُ الدَّوْلَةِ الأُمَوِيَّةِ، فَالدَّوْلَةِ العَبَّاسِيَّةِ ... إلخ.
عَصْرُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
(1) أَبُو بَكْرٍ (الصِّدِّيقُ) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
هُوَ «عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ القُرَشِيُّ» أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الرِّجَالِ، وَصَاحِبُهُ فِي الهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ. تَوَلَّى خِلَافَةَ المُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمُوَافَقَةِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، حَيْثُ جَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ يَؤُمُّ النَّاسَ عِنْدَمَا اشْتَدَّ بِهِ المَرَضُ.
هَمَسَاتٌ مِنْ حَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ:
مَحَبَّتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ حُبًّا شَدِيدًا، يَفُوقُ حُبَّهُ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَأَزْوَاجِهِ، وَدَلَائِلُ حُبِّهِ كَثِيرَةٌ تَجَلَّتْ فِي هِجْرَتِهِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ؛ حَيْثُ اشْتَرَى لِلنَّبِيِّ ﷺ بَعِيرًا لِيَحْمِلَهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ كُلَّ مَالِهِ وَهَاجَرَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ تَارِكًا زَوْجَتَهُ وَأَوْلَادَهُ، ثُمَّ مَا إِنْ بَدَآ السَّيْرَ حَتَّى أَخَذَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَمْشِي بِجِوَارِ النَّبِيِّ ﷺ سَاعَةً، وَخَلْفَهُ سَاعَةً أُخْرَى، وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَحْيَانًا، لِيَفْتَدِيَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْ أَيِّ عَدُوٍّ مُتَرَبِّصٍ، حَتَّى إِذَا مَا وَصَلَا الغَارَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: «مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الغَارَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ شَيْءٌ نَزَلَ بِي قَبْلَكَ»!! فَلَمَّا اسْتَبْرَأَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلَهُ
رَسُولُ اللهِ ﷺ.زُهْدُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الأَغْنِيَاءِ المُوسِرِينَ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ أَنْفَقَ كُلَّ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَكَانَ يَشْتَرِي العَبِيدَ مِنْ مَوَالِيهِمُ الكُفَّارِ، وَيُعْتِقُ رِقَابَهُمْ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَعِيشُ بِشَظَفِ العَيْشِ هُوَ وَمَنْ يَعُولُهُمْ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ بَيْتِ المَالِ إِلَّا مَا يَسُدُّ بِهِ جُوعَهُ فَقَطْ، حَتَّى إِنَّ زَوْجَتَهُ اشْتَاقَتْ يَوْمًا لِلْحَلْوَى فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ مَعَنَا مَا نَشْتَرِي بِهِ حَاجَتَكِ، فَقَالَتْ: سَأَدَّخِرُ مِنَ المَالِ حَتَّى أَشْتَرِيَهُ. فَلَمَّا ادَّخَرَتْ أَعْطَتْهُ لِأَبِي بَكْرٍ حَتَّى يَشْتَرِيَ لَهَا مَا تُرِيدُ، فَقَالَ لَهَا: هَذَا يَفِيضُ عَنْ حَاجَتِكِ. وَأَرْجَعَ المَالَ الَّذِي ادَّخَرَتْهُ لِبَيْتِ المَالِ!!
دَعْوَتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى اللهِ: مُنْذُ اعْتِنَاقِ أَبِي بَكْر لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ يَدْعُو إِلَى اللهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَاقَى جَرَّاءَ ذَلِكَ أَذًى كَبِيرًا، وَضُرِبَ وَعُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا، وَمَعَ ذَلِكَ ظَلَّ يَدْعُو إِلَى اللهِ حَتَّى أَعْلَى اللهُ كَلِمَتَهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
وَفَاتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَاسْتِخْلَافُ عُمَرَ: لَمَّا اشْتَدَّ المَرَضُ بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اجْتَمَعَ بِكِبَارِ الصَّحَابَةِ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى صِدْقِ عُمَرَ وَأَمَانَتِهِ عَلَى الخِلَافَةِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ: «... إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَإِنِّي لَمْ آلُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَدِينَهُ وَنَفْسِي وَإِيَّاكُمْ خَيْرًا، فَإِنْ عَدَلَ فَذَلِكَ ظَنِّي بِهِ وَعِلْمِي فِيهِ، وَإِنْ بَدَّلَ فَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ».
يَتَبَيَّنُ لَنَا مِمَّا سَبَقَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخَذَ بِجَوَانِبِ الشُّورَى كَامِلَةً; حَيْثُ اسْتَشَارَ النُّوَّابَ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ بِرَأْيهِ، وَعِنْدَمَا عَلِمَ بِالمُوَافَقَةِ تَمَّتِ البَيْعَةُ لِعُمَرَ فِي حَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ، حَتَّى لَا يَتَنَازَعَ النَّاسُ وَلَا تَتَفَكَّكَ الأُمُورُ وَلَوْ لِدَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا حِرْصُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى اتِّحَادِ الأُمَّةِ وَالخَوْفِ عَلَيْهَا مِنَ الزَّلَلِ.
(2) عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ (الفَارُوقُ) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ثَانِي الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، كَانَ مَنْ أَقْوَى الرِّجَالِ وَأَشْجَعِهِمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَأَقْوَاهُمْ وَأَصْدَعِهِمْ بِالحَقِّ فِي الإِسْلَامِ، وَكَانَ قَدْ أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ أَمَامَ مَكَّةَ كُلِّهَا، وَقَدْ أَعَزَّ اللهُ الإِسْلَامَ بِعُمَرَ، وَلَقَّبَهُ الرَّسُولُ ﷺ بِالفَارُوقِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ.
هَمَسَاتٌ مِنْ حَيَاةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ:
مَحَبَّتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مُنْذُ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ يُوَقِّرُ النَّبِيَّ ﷺ وَيَحْتَرِمُهُ احْتِرَامًا يُنْبِئُ عَنْ حُبٍّ دَفِينٍ؛ فَكَانَ يَحْمِي النَّبِيَّ ﷺ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ إِيذَائِهِمْ، حَيْثُ أُعْلِنَ الإِسْلَامُ بِإِسْلَامِ عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ مِنَ المُحَدّثِينَ المُلْهَمِينَ، فَكَانَ إِذَا رَأَى أَمْرًا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ بِكُلِّ احْتِرَامٍ.
زُهْدُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الزُّهْدُ مِنْ أَبْرَزِ صِفَاتِ الفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَظَهَرَ ذَلِكَ جَلِيًّا مَعَ كَثْرَةِ الفُتُوحَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالغَنَائِمِ الَّتِي أَتَتْ عَلَى البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ، فَلَمْ يَلْقَ لَهَا الفَارُوقُ طَرَفَهُ، وَلَا اهْتَزَّ لَهَا قَلْبُهُ، فَكَانَ الزَّاهِدَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبَ فِي الآخِرَةِ، حَيْثُ كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ طَعَامُهُ الخُبْزَ وَالزَّيْتَ، وَمَلْبَسُهُ كَأَدْنَى مَنْ فِي رَعِيَّتِهِ (ثَوْبُهُ خَشِنٌ جِدًّا)، حَتَّى قِيلَ: أَرَادَتِ الدُّنْيَا ابْنَ الخَطَّابِ وَلَمْ يُرِدْهَا.
دَعْوَتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى اللهِ: ارْتَبَطَ عُمَرُ بِدِينِهِ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا، فَعَاشَ حَيَاتَهُ مِنْ بَدْءِ إِسْلَامِهِ وَحَتَّى وَفَاتِهِ يَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَانِيَةً، وَيُعْلِي كَلِمَتَهُ، وَيَكْفِي عُمَرَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَشَارَ بِجَمْعِ القُرْآنِ وَقَدْ كَانَ مَخْطُوطًا، وَهَذَا مَشْرُوعٌ عَظِيمٌ اكْتَمَلَ فِي عَهْدِهِ، وَبَعْدَ إِتْمَامِهِ شُغِلَ بِتَعْلِيمِ النَّاسِ القُرْآنَ، فَأَرْسَلَ كِبَارَ الصَّحَابَةِ المُتَفَقِّهِينَ فِي الدِّينِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ القُرْآنَ، حَيْثُ أَرَادَ إِصْهَارَ النَّاسِ فِي بَوْتَقَةِ الإِسْلَامِ وَجَمْعَهُمْ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ أَسَاسُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ.
وَفَاتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَذَا القَائِدُ الَّذِي لَا يَخَافُ فِي اللهِ أَحَدًا قُتِلَ غَدْرًا عَلَى يَدِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ - لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِ - فِي صَلَاةِ فَجْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَهْرِ المُحَرَّمِ لِعَامِ 24 لِلْهِجْرَةِ، وَنُقِلَ لِبَيْتِهِ غَرِيقًا فِي دَمِهِ. وَقَدْ أَرْسَى عُمَرُ مَبْدَأَ الشُّورَى لِيَكُونَ أَسَاسًا لِاخْتِيَارِ المُسْلِمِينَ لِخَلِيفَتِهِمْ، فَأَوْصَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْ سِتَّةٍ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَهُمْ: (عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ). وَقَدْ مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ طَعْنَتِهِ بَعْدَ أَنِ اسْتَمَرَّتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سَنَوَاتٍ فُتِحَتْ فِيهَا بِلَادُ الشَّامِ وَالعِرَاقِ، وَكَثِيرٌ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَقَدِ اسْتَقَرَّ الرَّأْيُ لِأَخْذِ البَيْعَةِ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ اسْتِشَارَةِ المُسْلِمِينَ.
(3) عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ (ذُو النُّورَيْنِ) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ثَالِثُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَمِنَ العَشْرَةِ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ، وَلَمْ يَسْجُدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِصَنَمٍ أَبَدًا، وَلَمْ يَشْرَبْ خَمْرًا أَبَدًا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَوْرَ أَنْ عَرَضَ عَلَيْهَ الإِسْلَامَ دُونَ تَرَدُّدٍ، وَعُرِفَ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ، كَمَا اشْتُهِرَ بِالكَرَمِ; فَقَدْ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِرِبْحِ تِجَارَتِهِ كُلِّهَا، كَمَا عُرِفَ بِالتَّوَاضُعِ وَبِشِدَّةِ الحَيَاءِ، حَتَّى أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ المَلَائِكَةَ لَتَسْتَحِي مِنْهُ.
هَمَسَاتٌ مِنْ حَيَاةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ:
مَحَبَّتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَحَبَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ النَّبِيَّ ﷺ حُبًّا شَدِيدًا، وَأَحَبَّهُ النَّبِيُّ؛ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ رُقَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَلَمَّا وَافَتْهَا المَنِيَّةُ بَادَرَ النَّبِيُّ ﷺ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الثَّانِيَةَ أُمَّ كُلْثُومٍ، فَلَمَّا وَافَتْهَا المَنِيَّةُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَوْ عِنْدَنَا الثَّالِثَةُ لَزَوَّجْنَاكَهَا»!! وَمِنْ دَلَائِلِ مَحَبَّةِ عُثْمَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ اسْتِجَابَتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِشِرَاءِ بِئْرِ رُومَةَ، ذَلِكَ البِئْرُ الَّذِي وَعَدَ الرَّسُولُ ﷺ مَنِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنٍ فِي الجَنَّةِ، حَيْثُ اسْتَنْكَرَ المُسْلِمُونَ المَاءَ عِنْدَ قُدُومِهِمْ لِلْمَدِينَةِ وَاسْتَعْذَبُوا المَاءَ فِي هَذِهِ البِئْرِ (بِئْرِ رُومَةَ)، وَكَانَتْ لِيَهُودِيٍّ فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ مِنْهُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ ألْفَ دِرْهَمٍ، وَجَعَلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.
زُهْدُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رَغْمَ ثَرَاءِ عُثْمَانَ إِلَّا إِنَّهُ كَانَ زَاهِدًا رَاغِبًا فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ؛ لِيَقِينِهِ بِأَنَّهَا البَاقِيَةُ، وَأَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، فَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيُطْعِمُ النَّاسَ طَعَامَ الإِمَارَةِ، فَإِذَا فَرَغَ لِبَيْتِهِ أَكَلَ الخَلَّ وَالزَّيْتَ، وَكَانَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَامِلًا فِي رَكْعَةٍ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَكَانَ لَا يُوقِظُ أَحَدًا مِنْ خَدَمِهِ فِي اللَّيْلِ قَائِلًا: هَذَا وَقْتُ نَوْمِهِمْ.
دَعْوَتُهُ إِلَى اللهِ: مُنْذُ إِسْلَامِ عُثْمَانَ وَهُوَ يَدْعُو إِلَى اللهِ بِكَرِيمِ طَبْعِهِ وَحَيَائِهِ الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، وَكَانَ مَوْقِفُهُ عَظِيمًا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ فَقَدْ ضَرَبَ أَرْوَعَ مَثَلٍ فِي الصَّدَقَةِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، حَيْثُ تَصَدَّقَ بِتِسْعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَعِيرًا، وَسِتِّينَ فَرَسًا، وَجَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يُقَلِّبُهَا بِيَدَيْهِ الشَّرِيفَةِ وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ»
وَيُرَدِّدُهَا مِرَارًا.وَفَاتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بَعُدَ عَهْدُ النَّاسِ بِالنَّبِيِّ ﷺ ، وَظَهَرَتِ الفِتَنُ نَتِيجَةَ تَشَبُّثِ كُلٍّ بِرَأْيِهِ، وَكَانَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ إِحْدَى هَذِهِ الفِتَنِ وَتُسَمَّى الفِتْنَةَ الكُبْرَى فِي الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، حَيْثُ كَانَ عُثْمَانُ يُؤْثِرُ تَوْلِيَةَ أَهْلِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ فِي مَنَاصِبَ مُهِمَّةٍ فِي الدَّوْلَةِ، وَيُجْزِلُ لَهُمُ العَطَايَا، فَغَضِبَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدِّينَ الإِسْلَامِيَّ يُسَوِّي بَيْنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَلَا فَضْلَ لِأَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَاسْتَغَلَّ بَعْضُ المُنَافِقِينَ ذَلِكَ وَاسْتَطَاعَوا تَأْلِيبَ النَّاسِ عَلَى عُثْمَانَ، فَحَاصَرُوا بَيْتَهُ، وَرَفَضَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الخُرُوجَ إِلَيْهِمْ وَرَدْعَهُمْ؛ حَقْنًا لِدِمَاءِ المُسْلِمِينَ، حَتَّى انْتَهَى الأَمْرُ بِمَقْتَلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ القُرْآنَ وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَائِمًا.
وَتَوَلَّى الخِلَافَةَ بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَتِ البِلَادُ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ لَا تَنْعَمُ بِالأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ لِانْقِسَامِ النَّاسِ فَرِيقَيْنِ: الأَوَّلُ يُوجِبُ القِصَاصَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ حَتَّى لَا تَتَكَرَّرَ الفِتْنَةُ، وَالثَّانِي يُؤَيِّدُ الِانْتِظَارَ رَيْثَمَا تَهْدَأُ الأُمُورُ وَيَسْتَتِبُّ الأَمْنُ.
(4) عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
رَابِعُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَةِ، وَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وَزَوْجُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَهُوَ أَحَدُ العَشْرَةِ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ.
هَمَسَاتٌ مِنْ حَيَاةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
مَحَبَّتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: تَجَلَّتْ مَحَبَّةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ حِينَ نَامَ فِي فِرَاشِهِ ﷺ وَتَسَجَّى بِبُرْدِهِ لَيْلَةَ الهِجْرَةِ، وَهُوَ مَوْقِفٌ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا الأَبْطَالُ، كَمَا تَجَلَّى حُبُّهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي دِفَاعِهِ عَنْهُ فِي كُلِّ الغَزَوَاتِ، وَمِنْهَا حِينَ وَقَعَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الحُفْرَةِ، وَقَدْ أُصِيبَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بِسِتَّةَ عَشَرَ ضَرْبَةً وَهُوَ يُدَافِعُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
زُهْدُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَزْهَدِ النَّاسِ، وَكَانَ يَعِيشُ بِشَظَفِ العَيْشِ، وَكَانَ - رَغْمَ تَزَوُّجِهِ مِنْ بِنْتِ النَّبِيِّ ﷺ - لَا يَمْلِكُ فِرَاشًا إِلَّا فُرُوشَ كَبْشٍ يَبِيتُونَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَصْبَحُوا قَلَبُوهَا لِيَطْعَمُوا عَلَيْهَا، وَكَانَ لَا يَأْخُذُ مِنْ بَيْتِ المَالِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَلَا لِعِيَالِهِ.
دَعْوَتُهُ إِلَى اللهِ: نَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ كُلِّ العُلُومِ القِسْطَ الوَافِرَ الَّذِي جَعَلَهُ مَوْسُوعَةً لِلْمَعَارِفِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي صَدْرِ الإِسْلَامِ، وَإِلَى جَانِبِ ذَلِكَ امْتَلَكَ عَلِيٌّ فَصَاحَةَ اللِّسَانِ وَقُوَّةَ البَيَانِ، وَهُمَا أَسَاسَا الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، فَتَرَكَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَدَدًا مِنَ الخُطَبِ والرَّسَائِلِ جُمِعَتْ عَنْهُ فِيمَا بَعْدُ وَكَانَتْ بِمَثَابَةِ مَنْهَجٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الله.
وَفَاتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ عَهْدُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَافِلًا بِالِاضْطِرَابَاتِ وَالِانْقِسَامَاتِ، وَقَدْ حَاوَلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَوْحِيدَ الأُمَّةِ وَتَقْلِيلَ عَدَدِ القَتْلَى مَا وَسِعَهُ ذَلِكَ، لَكِنَّ أَحَدَ الخَوَارِجِ (ابْنَ مُلْجِمٍ) ضَرَبَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِسَيْفٍ مَسْمُومٍ عَلَى رَأْسِهِ، فَمَاتَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُتَأَثِّرًا بِجِرَاحِهِ، لِتُطْوَى بِذَلِكَ مَعَهُ آخَرُ صَفْحَةٍ مِنْ صَفَحَاتِ الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ الرَّاشِدِينَ فِي التَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ.
-