-
بى دى اف
-
نص
-
تَعْتَمِدُ حَيَاةُ الإِنْسَانِ مُنْذُ القِدَمِ عَلَى الزِّرَاعَةِ، فَبَدَأَ فِي بِنَاءِ بَيْتِهِ عَلَى ضِفَافِ الأَنْهَارِ؛ لِكَوْنِ الأَنْهَارِ أَهَمَّ العَوَامِلِ الطَّبِيعِيَّةِ لِقِيَامِ الزِّرَاعَةِ، وَاهْتَمَّ الإِنْسَانُ قَدِيمًا بِالفَيَضَانَاتِ؛ لِيُثْرِيَ أَرْضَهُ بِالطَّمْيِ الأَسْوَدِ، كَمَا اهْتَمَّ الفَلَّاحُ بِإِقَامَةِ السُّدُودِ؛ لِحِفْظِ مِيَاهِ الأَمْطَارِ وَالفَيَضَانَاتِ كَيْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا، وَلَمَّا كَثُرَ عَدَدُ السُّكَّانِ وَاضْطُرَّ لِلنُّزُوحِ بَعِيدًا عَنِ النَّهْرِ، اسْتَخْدَمَ ذَكَاءَهُ لِشَقِّ التُّرَعِ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَوْصِيلِ المِيَاهِ لِأَرْضِهِ النَّائِيَةِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ ذَكَاؤُهُ عِنْدَ شَقِّ التُّرَعِ، بَلْ تَخَطَّاهُ لِاسْتِخْدَامِ الشَّادُوفَ لِيُوَصِّلَ المِيَاهَ لِحُقُولِهِ العَالِيَةِ.
وَتَعْتَمِدُ الزِّرَاعَةُ عَلَى عَوَامِلَ طَبِيعِيَّةٍ، وَأُخْرَى بَشَرِيَّةٍ: فَتَعْتَمِدُ عَلَى مَوَارِدِ المِيَاهِ مُتَمَثِّلَةً فِي الأَنْهَارِ، وَتَحْلِيَةِ مِيَاهِ البِحَارِ، بِالإِضَافَةِ لِلْأَمْطَارِ وَالمِيَاهِ الجَوْفِيَّةِ، كَمَا تَعْتَمِدُ عَلَى التُّرْبَةِ الخِصْبَةِ وَالمُنَاخِ المُعْتَدِلِ وَالمُتَنَوِّعِ حَتَّى تَتَنَوَّعَ المَحَاصِيلُ، وَمِمَّا يُمَثِّلُ العَوَامِلَ البَشَرِيَّةَ تَوَافُرُ الأَيْدِي العَامِلَةِ، وَرَأْسُ المَالِ، وَفَهْمُ السُّوقِ.
وَلِعَمَلِيَّةِ الزِّرَاعَةِ خَمْسَةُ مَرَاحِلَ، هِيَ:
مَرَاحِلُ زِرَاعَةِ الأَرْضِ
الحَصَادُ
غَرْسُ البُذُورِ
بَذْرُ البُذُورِ
الحَرْثُ
العَزْقُ
يَعْزِقُ المُزَارِعُ أَرْضَهُ بِالفَأْسِ، ثُمَّ يَسْتَخْدِمُ المَحَارِيثَ لِحَرْثِ أَرْضِهِ، ثُمَّ يَبْذُرُ الفَلَّاحُ البُذُورَ الَّتِي يَوَدُّ زِرَاعَتَهَا، ثُمَّ يَغْرِسُهَا فَتَنْمُو وَتَنْضَجُ، فَيَقُومُ الفَلَّاحُ بِحَصَادِ زَرْعَتِهِ، ثُمَّ تَخِزِينِهَا بِالطَّرِيقَةِ الصَّحِيحَةِ.
وَالزِّرَاعَةُ أُولَى الصِّنَاعَاتِ؛ فَهِيَ الَّتِي تُنْتِجُ المَادَّةَ الأُولَى (الخَامَ) الَّتِي تَعْمَلُ عَلَيْهَا الصِّنَاعَةُ، بِالإِضَافَةِ إِلَى الْمُنْتَجَاتِ الزِّرَاعِيَّةِ الَّتِي تَتَّجِهُ لِلْأَسْوَاقِ مُبَاشَرَةً بَعْدَ زِرَاعَتِهَا. وَالمُزَارِعُ النَّاجِحُ هُوَ المُلِمُّ بِأُمُورِ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَارْتِفَاعِ الأَسْعَارِ وَانْخِفَاضِهَا لِيُسَوِّقَ لِزَرْعَتِهِ وَيَبِيعَهَا بِسِعْرٍ مُرْبِحٍ.
وَتَخْتَلِفُ الزِّرَاعَةُ عَنِ الصِّنَاعَةِ فِي أُمُورٍ عَدِيدَةٍ، مِنْهَا:
1. صُعُوبَةُ تَحْدِيدِ الإِنْتَاجِ الزِّرَاعِيِّ سَنَوِيًّا: فَمِنْ طَبِيعَةِ الإِنْتَاجِ الزِّرَاعِيِّ اعْتِمَادُهُ عَلَى الأَحْوَالِ الجَوِّيَّةِ وَخُصُوصًا الأَمْطَارَ، وَهَذَا يَجْعَلُ مِنَ الصُّعُوبَةِ بِمَكَانٍ التَّنَبُّؤَ بِكَمِّيَّةِ المَحْصُولِ السَّنَوِيِّ؛ نَظَرًا لِلتَّقَلُّبَاتِ الجَوِّيَّةِ، أَمَّا الصِّنَاعَةُ فَتَعْتَمِدُ عَلَى آلَاتٍ كَهْرُبَائِيَّةٍ لِلْإِنْتَاجِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَتَحَكَّمُ فِيهِ اليَدُ البَشَرِيَّةُ لِدَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ.
2. تَعَرُّضُ الزِّرَاعَةِ لِمَخَاطِرَ كَثِيرَةٍ: تَأَثُّرُ الزِّرَاعَةِ بِالطَّبِيعَةِ يَجْعَلُهَا أَكْثَرَ عُرْضَةً لِلْمَخَاطِرِ، مِثْلِ: جَفَافِ الأَمْطَارِ، وَالبَرْدِ، وَانْتِشَارِ الأَوْبِئَةِ وَالحَشَرَاتِ، وَالأَمْرَاضِ الَّتِي تُصِيبُ النَّبَاتَاتِ وَالحَيَوَانَاتِ، بِعَكْسِ الصِّنَاعَةِ الَّتِي يُمْكِنُهَا التَّغَلُّبَ عَلَى الأَحْوَالِ الجَوِّيَّةِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى عَدَمِ تَعَرُّضِهَا لِلْأَمْرَاضِ.
3. ارْتِبَاطُ الإِنْتَاجِ الزِّرَاعِيِّ بِالزَّمَنِ: تَخْتَلِفُ الزِّرَاعَةُ عَنِ الصِّنَاعَةِ فِي كَوْنِ الزِّرَاعَةِ تَتَعَامَلُ مَعَ الزَّمَنِ بِشَكْلٍ لَا يُمْكِنُ تَكْثِيفُهُ، فَمَثَلًا بَعْضُ أَصْنَافِ القَمْحِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى فِي التُّرْبَةِ مُدَّةَ 120 يَوْمًا، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْبَهَائِمِ حَتَّى تَلِدَ وَتَكْثُرَ عَلَى الفَلَّاحِ أَنْ يَنْتَظِرَ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ يُرَبِّي دَوَاجِنَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ 21 يَوْمًا لِفَقْسِ البَيْضِ، كُلُّ هَذِهِ الأَوْقَاتِ لَا يُمْكِنُ تَقْلِيلُهَا بِحَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، أَمَّا فِي المَجَالِ الصِّنَاعِيِّ فَبِمُجَرَّدِ تَوَافُرِ المَادَّةِ الخَامِ وَالعِمَالَةِ فَيُمْكِنُ تَكْثِيفُ الوَقْتِ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ نَظَرًا لِلتَّعَامُلِ مَعَ آلَاتٍ (غَيْرِ حَيَّةِ).
أَهَمِّيَّةُ الزِّرَاعَةِ: تُعْتَبَرُ الزِّرَاعَةُ المُمَوِّلَ الأَوَّلَ لِغِذَاءِ الإِنْسَانِ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهَا الرَّكِيزَةُ الأَسَاسِيَّةُ لِمَلَابِسِهِ مِنْ خِلَالِ زِرَاعَةِ الأَلْيَافِ كَالقُطْنِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى أَنَّهَا تُمِدُّ المَصَانِعَ بِالمَادَّةِ الخَامِ لِلتَّصْنِيعِ، وَتُعَدُّ الزِّرَاعَةُ سُوقًا لِلْمُنْتَجَاتِ الزِّرَاعِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ؛ لِذَا يَجِبُ الِاهْتِمَامُ بِالزِّرَاعَةِ اهْتِمَامًا يَتَنَاسَبُ وَأَهَمِّيَّتَهَا فِي حَيَاتِنَا.
النَّتَائِجُ المُتَرَتِّبَةُ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالزِّرَاعَةِ:
1. تَوْفِيرُ الغِذَاءِ: مِنْ دُونِ الغِذَاءِ يَتَعَرَّضُ الإِنْسَانُ لِلْفَنَاءِ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ المُجْتَمَعِ وَتَطَوُّرَهُ وَازْدِهَارَهُ مَرْهُونٌ بِوُجُودِ الغِذَاءِ، وَمِنْ ثَمَّ وُجُودُ الزِّرَاعَةِ.
2. تَحْقِيقُ التَّوَازُنِ التَّنْمَوِيِّ بَيْنَ الرِّيفِ وَالحَضَرِ: فَالِاهْتِمَامُ بِالزِّرَاعَةِ لَمْ يَعُدْ مُقْتَصِرًا عَلَى الأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةِ فَحَسْبُ، بَلْ تَطَرَّقَ أَيْضًا إِلَى المُنْشَآتِ، وَبِالتَّالِي إِيجَادُ فُرَصِ عَمَلٍ لِلشَّبَابِ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى تَحْسِينِ الدَّخْلِ القَوْمِيِّ لِأَهْلِ الرِّيفِ، وَيَجْعَلُهُمْ لَا يُهَاجِرُونَ لِلْمَدِينَةِ، فَيَتَحَقَّقُ التَّوَازُنُ بَيْنَ القَرْيَةِ وَالمَدِينَةِ.
المُشْكِلَاتُ المُحَاطَةُ بِالزِّرَاعَةِ:
تُمَثِّلُ المِيَاهُ رُوحَ الزِّرَاعَةِ وَسِرَّ وُجُودِهَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ خَطَرَ نُدْرَةِ المِيَاهِ يُحِيطُ بِعَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ بُلْدَانِ الوَطَنِ العَرَبِيِّ؛ مِمَّا يُنْبِئُ بِاقْتِرَابِ حُدُوثِ مَجَاعَةٍ فِي تِلْكَ البُلْدَانِ
لِانْعِدَامِ الزِّرَاعَةِ آنَذَاكَ؛ لِذَا يَجِبُ عَلَى الحُكُومَاتِ تَهْيِئَةُ مَوَارِدَ بَدِيلَةٍ لِمِيَاهِ الأَنْهَارِ لِإِنْقَاذِ بِلَادِهِمْ مِنَ المَوْتِ المُحَقَّقِ إِذَا قَلَّ نَصِيبُ الفَرْدِ مِنَ المِيَاهِ.
وَمِنَ المَخَاطِرِ المُحِيطَةِ بِالزِّرَاعَةِ: بِنَاءُ المَبَانِي عَلَى الأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةِ؛ رَغْبَةً فِي التَّوَسُّعِ نَتِيجَةً لِازْدِيَادِ عَدَدِ السُّكَّانِ، وَفِي هَذَا زِيَادَةٌ لِنِسْبَةِ ثَانِي أُكْسِيدِ الكَرْبُونِ وَقِلَّةٌ لِلْأُكْسُجِينِ، وَلِتَجَاوُزِ هَذَا الخَطَرِ لَا بُدَّ مِنْ وَضْعِ حَدٍّ لِظَاهِرَةِ البِنَاءِ عَلَى الأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةِ، وَعِقَابٍ لِمَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ، بِالإِضَافَةِ إِلَى اسْتِصْلَاحِ الصَّحْرَاءِ لِزِيَادَةِ الأَرَاضِي الصَّحْرَاوِيَّةِ غَيْرِ المُسْتَغَلَّةِ فِي البِنَاءِ أَوِ الزِّرَاعَةِ.
رَشُّ المَوَادِّ الكِيمْيَائِيَّةِ:
يَلْجَأُ بَعْضُ المُزَارِعِينَ فِي هَذَا العَصْرِ لِرَشِّ النَّبَاتِ بِمَوَادَّ كِيمَائِيَّةٍ تَجْعَلُهُ يَأْخُذُ شَكْلَ وَحَجْمَ وَلَوْنَ النُّضْجِ قَبْلَ مَوْعِدِهِ؛ لِيَبِيعَهُ فِي الأَسْوَاقِ بِسُرْعَةٍ، وَفِي هَذَا خُطُورَةٌ عَلَى أَرْوَاحِ النَّاسِ، فَهَذِهِ المَوَادُّ مِنْ شَأْنِهَا إِصَابَةُ الإِنْسَانِ بِأَخْطَرِ الأَمْرَاضِ: كَالسَّرَطَانِ، وَآلَامِ الكَبِدِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الأَمْرَاضِ الخَطِيرَةِ الَّتِي انْتَشَرَتْ مُؤَخَّرًا فِي مُجْتَمَعِنَا.
-