-
Pdf
-
Html
-
احْتِيَاجُ البَشَرِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَمْ يَتَوَقَّفْ مُنْذُ بَدْءِ الخَلِيقَةِ، وَالتَّبَادُلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ أَهَمِّ مَظَاهِرِ التَّفَاعُلِ الحَيَوِيِّ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالتِّجَارَةِ. وَقَدْ مَرَّتِ التِّجَارَةُ بِمَرَاحِلَ تَطَوُّرِيَّةٍ هَائِلَةٍ سَهَّلَتِ التَّبَادُلَ بَيْنَ البَشَرِ. وَالتِّجَارَةُ قَائِمَةٌ عَلَى فِكْرَةِ الإِنْتَاجِ وَالِاسْتِهْلَاكِ. وَكَانَتْ قَدِيمًا تُسَمَّى «المُقَايَضَةَ»، وَيُقْصَدُ بِهَا إِعْطَاءُ سِلْعَةٍ مُقَابِلَ سِلْعَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ تَطَوَّرَتْ بَعْدَ اسْتِخْدَامِ النُّقُودِ كَمُقَابِلٍ لِلسِّلَعِ، فَأَصْبَحَ التُّجَّارُ يَشْتَرُونَ السِّلَعَ مِنْ مُنْتِجِيهَا بِسِعْرٍ رَخِيصٍ، وَيَبِيعُونَهَا فِي السُّوقِ بِسِعْرٍ أَغْلَى، وَالفَرْقُ بَيْنَ سِعْرِ الشِّرَاءِ وَسِعْرِ البَيْعِ يُسَمَّى الرِّبْحَ أَوِ المَكْسَبَ، وَهَذَا الرِّبْحُ حَلَالٌ إِذَا لَمْ يَتِمَّ خِدَاعُ المُشْتَرِي. وَالتِّجَارَةُ الَّتِي تَتِمُّ بَيْنَ طَرَفَيْنِ تُسَمَّى بِالتِّجَارَةِ الثُّنَائِيَّةِ، أَمَّا إِذَا قَامَتْ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ فَتُسَمَّى تِجَارَةً مُتَعَدِّدَةَ الجَوَانِبِ.
وَالعَلَاقَةُ وَثِيقَةٌ بَيْنَ الزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ؛ حَيْثُ إِنَّ الزِّرَاعَةَ النَّوَاةُ الأُولَى لِمَا يَحْتَاجُهُ الإِنْسَانُ لِضَمَانِ بَقَائِهِ، وَمِنْ ثَمَّ يَأْتِي المَجَالُ الصِّنَاعِيُّ لِيُحَوِّلَ المَادَّةَ الخَامَ (المَزْرُوعَةَ) إِلَى مَادَّةٍ صَالِحَةٍ لِلِاسْتِخْدَامِ (الصِّنَاعَةِ التَّحْوِيلِيَّةِ)، ثُمَّ يَتِمُّ عَرْضُ المُنْتَجِ فِي الأَسْوَاقِ.
عَوَامِلُ قِيَامِ التِّجَارَةِ:
أَوَّلًا: الإِنْتَاجُ:
وَلَهُ أَرْبَعَةُ عَنَاصِرَ، هِيَ:
1. العَمَلُ: وَهُوَ المَجْهُودُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الإِنْسَانُ لِتَهْيِئَةِ الطَّبِيعَةِ لِحَاجَاتِهِ الأَسَاسِيَّةِ.
2. الأَرْضُ: وَهِيَ أَصْلُ كُلِّ الصِّنَاعَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الأَرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لِاسْتِخْرَاجِ المَادَّةِ الخَامِ لِكُلِّ مُنْتَجٍ مُسْتَخْدَمٍ فِي الصِّنَاعَةِ، وَمِنْ ثَمَّ الإِنْتَاجُ تَمْهِيدًا لِلتِّجَارَةِ.
3. رَأْسُ المَالِ: وَيُقْصَدُ بِهِ الأَمْوَالُ الَّتِي سَبَقَ رِبْحُهَا مِنْ عَمَلِيَّةٍ إِنْتَاجِيَّةٍ سَابِقَةٍ. وَيَنْقَسِمُ رَأْسُ المَالِ إِلَى ثَابِتٍ وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ: كَالآلَاتِ، وَالمَبَانِي، وَرَأْسِ مَالٍ مُتَحَرِّكٍ: كَالوَقُودِ، وَالأَشْيَاءِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
4. التَّنْظِيمُ: وَهُوَ التَّوْفِيقُ وَالتَّجْمِيعُ بَيْنَ عَنَاصِرِ الإِنْتَاجِ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى مُنْتَجٍ نَاجِحٍ، وَالمُنَظِّمُ دَائِمًا مَا يَكُونُ صَاحِبَ المَشْرُوعِ الَّذِي يَتَحَمَّلُ أَيَّ خَسَارَةٍ أَوْ مَخَاطِرَ تُحِيطُ بِالمَشْرُوعِ، وَالَّذِي يَأْخُذُ الرِّبْحَ وَالكَسْبَ حَالَ نَجَاحِ المَشْرُوعِ.
ثَانِيًا: السُّوقُ:
وَهُوَ المَكَانُ الَّذِي يَتِمُّ فِيهِ تَبَادُلُ السِّلَعِ، وَيَقُومُ عَلَى عَلَاقَةِ العَرْضِ وَالطَّلَبِ بَيْنَ البَائِعِ وَالمُشْتَرِي لِسِلْعَةٍ مَا، وَبَعْدَ تَطَوُّرِ الِاتِّصَالَاتِ لَمْ يَعُدِ السُّوقُ مُرْتَبِطًا بِمِنْطَقَةٍ جُغْرَافِيَّةٍ، فَيُمْكِنُ التَّسَوُّقُ عَبْرَ الإِنْتَرْنِت.
وَلِلسُّوقِ أَنْوَاعٌ مِنْهَا:
1. السُّوقُ الاسْتِهْلَاكِيَّة: وَفِيهِ تُعْرَضُ البِضَاعَةُ عَلَى الجُمْهُورِ بِغَرَضِ شِرَائِهَا، فَيُحَقِّقُ البَائِعُ الرِّبْحَ المَالِيَّ، وَيَحْصُلُ المُشْتَرِي عَلَى حَاجَتِهِ مُقَابِلَ المَالِ الَّذِي يَدْفَعُهُ.
2. السُّوقُ الاصْطِنَاعِيَّةُ: وَفِيهِ يَتِمُّ شِرَاءُ المَوَادِّ الخَامِ الَّتِي تُحَوَّلُ إِلَى مُنْتَجٍ يَصْلُحُ اسْتِخْدَامُهُ، مِمَّا يُحَقِّقُ الرِّبْحَ المَالِيَّ لِلْبَائِعِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ سَيُصْبِحُ بَعْدَ ذَلِكَ بَائِعًا لِمُنْتَجِهِ بَعْدَ تَحْوِيلِهِ.
ثَالِثًا: تَجْزِئَةُ السُّوقِ:
وَيُقْصَدُ بِهَا تَقْسِيمَ السُّوقِ إِلَى أَجْزَاءٍ فَرْعِيَّةٍ، يَتِمُّ فِيهَا دِرَاسَةُ احْتِيَاجَاتِ المُسْتَهْلِكِينَ وَخَصَائِصِهِمْ مِنْ حَيْثُ الدَّخْلِ، وَالجِنْسِيَّةِ، وَالِاهْتِمَامِ، وَالدِّيَانَةِ، وَالتَّسْعِيرِ (التَّسْعِيرُ: ثَمَنُ الِمُنْتَجِ الَّذِي يُحَدِّدُهُ كِبَارُ التُّجَّارِ وَيَسِيرُ عَلَيْهِ الجَمِيعُ) وَالتَّوْزِيعِ، كُلُّ ذَلِكَ بِهَدَفِ عَرْضِ مُنْتَجٍ مُنَاسِبٍ فِي المَكَانِ المُنَاسِبِ لِلْمُسْتَهْلِكِينَ المُنَاسِبِينَ؛ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَرْوِيجِ المُنْتَجِ وَزِيَادَةِ الرِّبْحِ.
وَالتِّجَارَةُ مِنَ الأَعْمَالِ المُحَبَّبَةِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا تُحَقِّقُ الرِّبْحَ.
وَتُشَجِّعُ الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ عَلَى التِّجَارَةِ الحَلَالِ، حَتَّى أَنَّ اللَّهَ سَمَّى الرِّبْحَ مِنَ التِّجَارَةِ فِي كِتَابِهِ «فَضْلَ اللَّهِ»، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:(فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٠َ) [الجُمُعَة: 10].
وَلَا تُحَدِّدُ الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ نِسْبَةً مُعَيَّنَةً لِلرِّبْحِ، بَلْ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنٍ وَيَبِيعَ بِالثَّمَنِ الَّذِي يُرِيدُهُ بِرِضَا الزَّبُونِ (المُشْتَرِي).
وَتُحَرِّمُ الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ الغِشَّ وَالخِدَاعَ فِي التِّجَارَةِ، وَهَذَا يَكُونُ بِوُجُودِ تَسْعِيرَةٍ لِمُنْتَجٍ مُعَيَّنٍ، فَيَقُومُ التَّاجِرُ بِبَيْعِهَا بِسِعْرٍ أَغْلَى دُونَ إِخْبَارِ الزَّبُونِ بِسِعْرِهَا الحَقِيقِيِّ، فَفِي هَذَا خِدَاعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ تَمَامًا.
-