-
Pdf
-
Html
-
السِّيَاحَةُ هِيَ انْتِقَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ دَاخِلَ بَلَدِهِ أَوْ خَارِجَهُ لِأَغْرَاضٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا زِيَارَةُ الْأَمَاكِنِ الْمُقَدَّسَةِ: كَزِيَارَةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَزِيَارَة الْمَسِيحِيِّينَ لِلْقُدْسِ، وَالْفَاتِيكَانِ، وَالْأَدْيِرَةِ كَدَيْرِ سَانَتْ كَاتْرِينَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ السِّيَاحَةُ بِالسِّيَاحَةِ الدِّينِيَّةِ، حَيْثُ يَتَحَمَّلُ فِيهَا السَّائِحُ مَشَاقَّ الطَّرِيقِ وَأَدَاءَ الْمَنَاسِكِ بِحُبٍّ وَشَوْقٍ؛ رَغْبَةً فِي إِرْضَاء رَبِّهِ، وَإِشْبَاعًا لِلْجَانِبِ الرُّوحِيِّ لَدَيْهِ، بِالْإِضَافَةِ لِتَقْوِيَةِ إِيمَانِهِ.
وَمِنْ أَغْرَاضِ السِّيَاحَةِ التَّرْفِيهُ، حَيْثُ يَشْتَاقُ النَّاسُ لِتَغْيِيرِ رُوتِينِ يَوْمِهِمْ وَأَعْبَاءِ عَمَلِهِمْ وَضُغُوط الْحَيَاةِ، بِالِانْتِقَالِ لِمَكَانٍ آخَرَ، حَيْثُ الِاسْتِرْخَاءُ، وَمُشَاهَدَةُ الْمَعَالِمِ السِّيَاحِيَّةِ، وَرُكُوبِ الْجِمَالِ فِي الْأَمَاكِنِ الصَّحْرَاوِيَّةِ، أَوْ رُكُوبِ الْقَوَارِبِ وَالسُّفُنِ فِي الْمَنَاطِقِ السِّيَاحِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَشْهَرُ لِلسِّيَاحَةِ.
وَتُولِي الْحُكُومَاتُ فِي الْبِلَادِ السِّيَاحِيَّةِ اهْتِمَامًا كَبِيرًا بِالْمَعَالِمِ السِّيَاحِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُعْتَبَرُ مَصْدَرًا أَسَاسِيًّا لِلدَّخْلِ الْقَوْمِيِّ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، فَتَقُومُ عَلَى إِنْشَاءِ كُلِّيَّاتٍ لِلسِّيَاحَةِ يُعَلِّمُونَ فِيهَا طُلَّابَهُمْ تَارِيخَ بِلَادِهِمْ وَحَضَارَاتِهِمْ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى تَعْلِيمِ الطُّلَّابِ كَيْفَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ السُّيَّاحِ، وَكَيْفَ يَنْشُرُونَ تَارِيخَ حَضَارَتِهِمْ، ثُمَّ تَهْتَمُّ الْحُكُومَاتُ بِالْمَنَاطِقِ السِّيَاحِيَّةِ نَفْسِهَا، مِنْ خِلَالِ تَرْمِيمِ التَّالِفِ مِنْهَا وَنَظَافَتِهَا كَيْ تَرُوقَ لِلسُّيَّاحِ، وَتَوْفِيرِ الْخِدْمَةِ اللَّازِمَةِ لِاسْتِضَافَةِ السُّيَّاحِ: كَبِنَاءِ فَنَادِقَ جَيِّدَةِ الْخِدْمَةِ، وَإِنْشَاءِ مَطَاعِمَ بِجَانِبِ الْمَنَاطِقِ السِّيَاحِيَّةِ. وَيُعَدُّ تَوْفِيرُ الْأَمَانِ لِلسُّيَّاحِ الْعُنْصُرَ الْأَهَمَّ فِي السِّيَاحَةِ، وَهُوَ مَا تَقُومُ بِهِ شُرْطَةُ السِّيَاحَةِ فِي الْبِلَادِ السِّيَاحِيَّةِ.
وَمِنْ أَنْوَاعِ السِّيَاحَةِ كَذَلِكَ السِّيَاحَةُ الْعِلَاجِيَّةُ: وَتَتَوَفَّرُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ ذَاتِ الْمُنْتَجَعَاتِ وَالْمَرَاكِزِ الصِّحِّيَّةِ الَّتِي تُعَالِجُ أَمْرَاضَ الْجَسَدِ بِعِلَاجٍ يَتَوَفَّرُ فِي جَوِّ الْبَلَدِ أَوْ رِمَالِهَا أَوْ مَائِهَا، كَالْعِلَاجِ بِالدَّفْنِ فِي الرِّمَالِ السَّاخِنَةِ فِي سَيْنَاءَ، وَيَكُونُ التَّرْفِيهُ بِجَانِبِ الْعِلَاجِ فِي السِّيَاحَةِ الْعِلَاجِيَّةِ.
وَهُنَاكَ سِيَاحَةُ التَّسَوُّقِ: وَفِيهَا يَذْهَبُ السُّيَّاحُ لِبِلَادٍ تَتَمَيَّزُ بِجَوْدَةِ الْمُنْتَجَاتِ وَاعْتِدَالِ الْأَسْعَارِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَيَقْصِدُهَا السُّيَّاحُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِشِرَاءِ بَعْضِ مُسْتَلْزَمَاتِهِمْ.
وَأَرْقَى أَنْوَاعِ السِّيَاحَةِ هِيَ الَّتِي تَزِيدُ مِنْ ثَقَافَةِ الْإِنْسَانِ وَاكْتِشَافَاتِهِ، وَتُسَمَّى بِالسِّيَاحَةِ الثَّقَافِيَّةِ، وَالَّتِي يَكُونُ هَدَفُ السَّائِحِ مِنْهَا زِيَارَةَ الْمَتَاحِفِ وَالْآثَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَارِيخِ الْبَلَدِ الْمُسَافَرِ إِلَيْهِ، كَالْمَعَابِدِ، وَالْكَنَائِسِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ الَّتِي تَحْمِلُ بَيْنَ جُدْرَانِهَا تَارِيخَ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَثَقَافَتِهِ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى سِيَاحَةِ الرِّيَاضَةِ، وَسِيَاحَةِ التَّأَمُّلِ، وَالسِّيَاحَةِ الشَّاطِئِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالْعَدِيدِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّيَاحَةِ الْمَلِيئَةِ بِالْفَوَائِدِ.
وَلِلسِّيَاحَةِ أَهَمِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ، بَلْ عَلَى مُسْتَوَى الْحُكُومَةِ وَالدَّوْلَةِ عَامَّةً؛ فَالسِّيَاحَةُ تُعْتَبَرُ رَافِدًا مُهِمًّا مِنْ رَوَافِدِ الِاقْتِصَادِ، حَيْثُ تَعْتَمِدُ مِيزَانِيَّةُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهَا بِنِسْبَةٍ كَبِيرَةٍ، فَإِذَا زَادَ عَدَدُ الزَّائِرِينَ فِي بَلَدٍ سِيَاحِيٍّ، فَهَذَا يُعَدُّ مُؤَشِّرًا عَلَى زِيَادَةِ الْخِدْمَاتِ وَالرَّوَاتِب، وَزِيَادَةٍ عَامَّةٍ فِي الدَّخْلِ الْقَوْمِيِّ.
وَتُعْتَبَرُ السِّيَاحَةُ وَسِيلَةً لِلتَّرْفِيهِ وَتَحْسِينِ نَفْسِيَّةِ الْمَرْءِ، فَكَثِيرًا مَا نَسْمَعُ نَصَائِحَ الْأَطِبَّاءِ لِلْمَرْضَى الَّذِينَ يُعَانُونَ مِنَ التَّوَتُّرِ وَالِاكْتِئَابِ النَّفْسِيِّ بِالسَّفَرِ لِتَحْسِينِ حَالَتِهِمْ.
كَمَا أَنَّ السِّيَاحَةَ بِمَثَابَةِ حَمْلَةٍ تَسْوِيقِيَّةٍ لِتَارِيخِ الْبَلَدِ وَمُنْتَجَاتِهِ؛ فَالسُّيَّاحُ الَّذِينَ يَزُورُونَ الْبَلَدَ يَتَعَرَّفُونَ عَلَى مُنْتَجَاتِهِ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا عَرَفُوهُ، وَفِي هَذَا تَنْشِيطٌ لِسُيَّاحٍ آخَرِينَ، وَتَعْزِيزٌ لِلدَّخْلِ الْقَوْمِيِّ. وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ تُعَدُّ السِّيَاحَةُ مِنْ أَهَمِّ الْوَسَائِلِ لِتَبَادُلِ الثَّقَافَاتِ بَيْنَ الْبُلْدَانِ، وَهَذَا يُذِيبُ الْفَوَارِقَ وَيُقَوِّي الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْبِلَادِ.
وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ السِّيَاحَةَ تُعَدُّ الْيَدَ الدَّامِغَةَ لِلْبِطَالَةِ الَّتِي تَعِجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَالسِّيَاحَةُ تَحْتَاجُ لِلْكَثِيرِ مِنْ شَبَابِ الْبَلَدِ لِتَنْشِيطِهَا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْبِلَادِ تُوَظِّفُ مِئَاتِ الْآلَافِ مِنَ الشَّبَابِ الْمُؤَهَّلِ وَالْمُدَرَّبِ لِلْعَمَلِ فِي هَذَا الْمَجَالِ. وَعَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ الَّتِي تَتَوَافَرُ فِيهَا عَوَامِلُ قِيَامِ السِّيَاحَةِ، أَنْ تَهْتَمَّ الِاهْتِمَامَ اللَّائِقَ بِالْمَعَالِمِ السِّيَاحِيَّةِ فِيهَا، وَأَنْ تُرَوِّجَ لَهَا بِكُلِّ السُّبُلِ الْمُمْكِنَةِ، حَتَّى يَزِيدَ التَّوَافُدُ عَلَيْهَا؛ وَمِنْ ثَمَّ زِيَادَةُ الدَّخْلِ الْقَوْمِيِّ الَّذِي يُسَاهِمُ بِلَا شَكٍّ فِي زِيَادَةِ مِيزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ عَامَّةً.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ الْجَذْبِ السِّيَاحِيِّ، فَالسَّائِحُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْأَمْنَ التَّامَّ فِي الْبَلَدِ الْمُسَافَرِ إِلَيْهَا، سَيَعْدِلُ عَنْ فِكْرَةِ السِّيَاحَةِ مِنْ أَسَاسِهَا، وَيَشْمَلُ الْأَمْنُ ضَرُورَةَ وُجُودِ رِعَايَةٍ صِحِّيَّةٍ مُمَثَّلَةٍ فِي الْمَرَاكِزِ الصِّحِّيَّةِ وَالصَّيْدَلِيَّاتِ، ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ الْعَوَامِلُ الطَّبِيعِيَّةُ لِجَذْبِ السُّيَّاحِ: كَالْمَوْقِعِ، وَالْمُنَاخِ، وَالتَّضَارِيسِ، وَطَبِيعَةِ الْمَاءِ، يَلِي ذَلِكَ الْعَوَامِلُ الْبَشَرِيَّةُ، وَيُقْصَدُ بِهَا مَا شَيَّدَهُ الْقُدَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ مِنْ مُنْشَآتٍ تَارِيخِيَّةٍ وَثَقَافِيَّةٍ، وَتَسْعَى كَثِيرٌ مِنَ الْبُلْدَانِ الْيَوْمَ إِلَى بِنَاءِ الْمَتَاحِفِ وَالْمَعَارِضِ؛ لِعَرْضٍ مَا فَعَلَهُ الْقُدَمَاءُ، وَهَذِهِ الْمَتَاحِفُ بِمَثَابَةِ وَسِيلَةِ جَذْبٍ وَاسْتِقْطَابٍ لِلْأَفْوَاجِ السِّيَاحِيَّةِ، وَتَرْوِيجٍ لِلسِّيَاحَةِ عَامَّةً فِي الْبَلَدِ.
وَمِنَ الْأَهَمِيَّةِ بِمَكَانٍ أَنْ تَهْتَمَّ الْبُلْدَانُ المُسْتَضِيفَةُ لِلسُّيَّاحِ عَلَى أَرْضِهَا بِخِدْمَاتِ الْبِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ في الْمَنَاطِقِ السِّيَاحِيَّةِ، مِثْلِ: تَوْصِيلِ الْمَاءِ، وَالْكَهْرُبَاءِ، وَشَبَكَاتِ الهَاتِفِ وَالجَوَّالِ، وَهِيَ خِدْمَاتٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، سَوَاءٌ أَهْلُ الْبَلَدِ الْمُقِيمُونَ، أَوِ السُّيَّاحُ الْمُغْتَرِبُونَ.
-