• Pdf
  • Html

    •  

      يُقْصَدُ بِدِرَاسَةِ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ تِلْكَ العُلُومَ الَّتِي نَهَلَتْ أُصُولَهَا وَمَبَادِئَهَا مِنْ كِتَابِ اللهِ (القُرْآنِ الكَرِيمِ)، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ، كَعُلُومِ: التَّفْسِيرِ، وَالحَدِيثِ، وَالفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَالعَقِيدَةِ.

      أَوَّلًا: عِلْمُ التَّفْسِيرِ:

      هُوَ عِلْمٌ يَهْدِفُ إِلَى فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى صَفِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانِ مَعَانِيهِ وَاسْتِخْرَاجِ أَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ. وَأَوَّلُ مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ الكَرِيمَ هُوَ النَّبِيُّ ، وَيَبْرُزُ هَذَا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى آمِرًا النَّبِيَّ بِذَلِكَ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].

      وَقَدِ اهْتَمَّ الصَّحَابَةُ بِفَهْمِ مَعَانِي القُرْآنِ اهْتِمَامًا شَدِيدًا، وَخَيْرُ شَاهِدٍ عَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آياتٍ، لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالعَمَلَ بهِنَّ». وَكَانَ الصَّحَابَةُ يُفَسِّرُونَ القُرْآنَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ، كَمَا فَعَلَ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعَمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

      وَفِي مَجَالِ التَّفْسِيرِ يَبْرُزُ العَلَّامَةُ حَبْرُ الأُمَّةِ الفَقِيهُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَالمُلَقَّبُ بِتُرْجُمَانِ القُرْآنِ، الَّذِي دَعَا لَهُ النَّبِيُّ قَائِلًا: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ [أَيِ التَّفْسِيرَ]» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ).

      هَكَذَا بَدَأَ عِلْمُ التَّفْسِيرِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَهُ التَّابِعُونَ عَنْهُمْ، ونُقِلَ العِلْمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ حَتَّى جُمِعَ فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ وَالمُسَمَّى «جَامِعَ البَيَانِ عَنْ تَأْوِيلِ آيِ القُرْآنِ) لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، الَّذِي يُعَدُّ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ عِلْمَ التَّفْسِيرِ، وَيُعْتَبَرُ كِتَابُهُ مَرْجِعًا لِكُلِّ مَنْ أَلَّفَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ بَعْدِهِ؛ فَقَدْ جَمَعَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ.

      ثَانِيًا: عِلْمُ الحَدِيثِ:

      جَاءَ القُرْآنُ بِفَرَائِضَ: كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَغَيْرِهَا مِنَ الفَرَائِضِ، لَكِنْ جَاءَتْ هَذِهِ الفَرَائِضُ مُقْتَضَبَةً (مُوجَزَةً) لَا تَفْصِيلَ لَهَا فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَهُنَا بَرَزَ دَوْرُ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ -وَالَّتِي تُعَدُّ المَصْدَرَ الثَّانِي لِلتَّشْرِيعِ الإِسْلَامِيِّ- حَيْثُ جَاءَتْ بِتَفْصِيلِ المُوجَزِ مِنْ تِلْكَ الفَرَائِضِ، وَإِسْهَابِ المُقْتَضَبِ مِنَ القُرْآنِ، فَتَعَلَّمْنَا مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّلَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَأَوْقَاتَهَا، وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا، وَكَيْفِيَّتَهَا. كَمَا تَعَلَّمْنَا مِنْهَا مِقْدَارَ الزَّكَاةِ، وَالمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَأَوْقَاتَهَا، وَتَعَلَّمْنَا أَيْضًا كَيْفِيَّةَ الحَجِّ وَالطَّوَافِ، وَرَمْيِ الجَمَرَاتِ، وَغَيْرِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ مِنَ السُّنَّةِ؛ لِهَذَا اعْتَنَى العُلَمَاءُ المُسْلِمُونَ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ اعْتِنَاءً دَقِيقًا أَذْهَلَ العَالَمَ، فَدَوَّنُوا الكُتُبَ وَانْفَرَدُوا بِالعُلُومِ الخَاصَّةِ بِهِمْ: كَعِلْمِ الحَدِيثِ وَمَا نَتَجَ عَنْهُ مِنْ عِلْمِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ.

      وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ كُلُّ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ قَوْلًا (أَيْ نَطَقَ بِهِ)، أَوْ فِعْلًا (أَيْ فَعَلَهُ )، أَوْ تَقْرِيرًا (أَيْ فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ بِالقَوْلِ أَوْ بِالصَّمْتِ). وَتَكْمُنُ أَهَمِيَّةُ عِلْمِ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ فِي أَنَّهُ جَاءَ لِلْحِفَاظِ عَلَى الحَدِيثِ القَوْلِيِّ وَالفِعْلِيِّ وَالتَّقْرِيرِيِّ.

      وَيُسَمَّى عِلْمُ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ «عِلْمَ الرِّوَايَةِ»، وَهُوَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالسَّنَدِ (الرُّوَاةِ الَّذِينَ رَوَوُا الحَدِيثَ عَنِ الرَّسُولِ )، وَهُوَ غَيْرُ المَتْنِ (نَصِّ الحَدِيثِ الَّذِي قَالَهُ الرَّسُولُ ).

      مِثْلُ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَمُوسَى بْنُ حِزَامٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ؛ فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ).

      وَغَالِبًا مَا يَبْدَأُ السَّنَدُ بِأَحَدِ تِلْكَ الأَلْفَاظِ: (حَدَّثَنَا، أَخْبَرَنَا، أَنْبَأَنَا، حَدَّثَنِي، أَخْبَرَنِي، أَنْبَأَنِي...). أَمَّا المَتْنُ فَهُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ . وَقَدِ اجْتَهَدَ المُسْلِمُونَ فِي مَعْرِفَةِ السِّنَدِ؛ حَتَّى يُمْكِنَهُمُ التَّأَكُّدُ مِنْ صِحَّةِ الحَدِيثِ وَثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ ؛ فَدَرَسُوا أَحْوَالَ رُوَاةِ الحَدِيثِ وَسُلُوكَهُمْ وَطِبَاعَهُمْ، وَسَمُّوا هَذَا العِلْمَ بِعِلْمِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَيُمْكِنُنَا التَّأَكُّدَ مِنْ صِحَّةِ نَقْلِ الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ بِالرُّجُوعِ إِلَى كُتُبِ الحَدِيثِ المُوَثَّقَةِ: كَصَحِيحِ البُخَارِيِّ، وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الأَئِمَّةِ: كَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَه... إِلَخْ.

      وَيُوجَدُ أَيْضًا الحَدِيثُ القُدُسِيُّ (الحَدِيثُ الإِلَهِيُّ): وَهُوَ الحَدِيثُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى رَسُولِهِ ؛ فَأَبْلَغَنَا الرُّسُولُ مَعْنَاهُ بِأَلْفَاظٍ مِنْ عِنْدِهِ ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ القُرْآنِ الكَرِيمِ الَّذِي نَزَلَ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، كَمَا أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَنَتْلُوهُ فِي صَلَاتِنَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ مَعَ الحَدِيثِ القُدُسِيِّ.

      وَمِنْ أَمْثِلَةِ الأَحَادِيثِ القُدُسِيَّةِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ).

      ثَالِثًا: عِلْمُ الفِقْهِ:

      هُوَ العِلْمُ الَّذِي يَهْتَمُّ بِمَعْرِفَةِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تُنَظِّمُ حَيَاةَ المُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ فِي عِبَادَاتِهِمْ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ مَعَ المُسْلِمِينَ وَغَيْرِ المُسْلِمِينَ، وَفِي عَلَاقَاتِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالأُسَرِيَّةِ، فَبِهَذَا العِلْمِ نَسْتَطِيعُ أَنْ نُحَدِّدَ الحُكْمَ عَلَى أَيِّ فِعْلٍ بِأَنَّهُ حَلَالٌ، أَوْ حَرَامٌ، أَوْ مُبَاحٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَفْقًا لِمَا جَاءَ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ (وَهُوَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ )، وَيَتِمُّ هَذَا بِمَعْرِفَةِ قَوَاعِدَ وَضَوَابِطَ تُدْرَسُ تَحْتَ مُسَمَّى «عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ»، وَهُوَ مَجْمُوعَةُ الأَحْكَامِ الَّتِي يَبْنِي عَلَيْهَا الفَقِيهُ حُكْمَهُ بِكَوْنِهِ حَلَالًا، أَوْ حَرَامًا، أَوْ مُبَاحًا، أَوْ مَكْرُوهًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا.

      رَابِعًا: عِلْمُ العَقِيدَةِ:

      العَقِيدَةُ أَسَاسُ الدِّينِ، وَهِيَ مَا اعْتَقَدَهُ الإِنْسَانُ اعْتِقَادًا جَازِمًا يَقِينِيًّا لَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ، حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَرَهُ: كَاعْتِقَادِ المُسْلِمِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَبِالمَلَائِكَةِ، والرُّسُلِ السَّابِقِينِ، وَالبَعْثِ وَالحِسَابِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ ... إِلَخْ. وَالعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ السَّلِيمَةُ هِيَ عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ (وَهُمْ جَمَاعَةُ الإِسْلَامِ المُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحِ)، وتَشْتَمِلُ عَقِيدَتُهُمْ عَلَى: أَرْكَانِ الإِيمَانِ السِّتَّةِ (الإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)، وَكَذَلِكَ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ الخَمْسَةِ: (شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).

      وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى سُوَرِ القُرْآنِ الكَرِيمِ المَكِّيَّةِ نَجِدُهَا اهْتَمَّتْ بِالجَانَبِ العَقَدِيِّ وَغَذَّتْهُ، حَتَّى إِذَا أَشْبَعَتْ ذَلِكَ الجَانِبَ، نَجِدُ القُرْآنَ يَنْتَقِلُ - وَبِكُلِّ سَلَاسَةٍ - إِلَى السُّوَرِ المَدَنِيَّةِ، وَالَّتِي اخْتَصَّتْ بِالجَانِبِ التَّشْرِيعِيِّ لِلأَحْكَامِ الَّتِي يَتَقَبَّلُهَا المُسْلِمُ بِقَوَّةٍ، تُشْبِهُ قُوَّةَ إِيمَانِهِ بِرَبِّهِ وَيَقِينِهِ بِهِ جَلَّ فِي عُلَاهُ.