-
Pdf
-
Html
-
مَا السَّبَبُ فِي قِيَامِ الحُرُوبِ؟ مَا السَّبَبُ فِي الِاعْتِدَاءِ وَالِاحْتِلَالِ؟ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ انْعِدَامُ الأَخْلَاقِ، فَوُجُودُهَا (أَيِ الأَخْلَاقِ) يُعَدُّ السَّبِيلَ الوَحِيدَ لِاسْتِمْرَارِيَّةِ الحَيَاةِ الإِنْسَانِيَّةِ الحَافِلَةِ بِالسَّلَامِ. وَالأَخْلَاقُ تَخْتَلِفُ عَنِ القَانُونِ؛ فَالقَانُونُ هُوَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الضَّوَابِطِ الَّتِي يَضَعُهَا البَشَرُ، وَيُنَفِّذُهَا رِجَالُ القَضَاءِ وَالشُّرْطَةُ، وَتُحَقِّقُ الأَمْنَ بِنِسْبَةٍ ضَئِيلَةٍ إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالأَخْلَاقِ الَّتِي تَعْنِي الضَّمِيرَ الإِنْسَانِيَّ وَرُوحَ الحَيَاةِ الآمِنَةِ؛ فَالأَخْلَاقُ هِيَ المُحَرِّكُ الدَّافِعُ لِلْإِنْسَانِ لِجَلْبِ الخَيْرِ وَطَرْدِ الشَّرِّ، وَتُعْرَفُ الأَخْلَاقُ بِالسَّجَايَا وَالطِّبَاعِ الَّتِي يَتَطَبَّعُ عَلَيْهَا الإِنْسَانُ مُنْذُ صِغَرِهِ، وَتَحُثُّ عَلَيْهَا جَمِيعُ الأَدْيَانِ، حَيْثُ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ قَوْلُهُ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ» [رَوَاهُ النَّسَائِيُّ].
وَالأَخْلَاقُ هِيَ الحَيَاءُ، وَالصَّبْرُ، وَالصِّدْقُ، وَالأَمَانَةُ، وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَهُ اللَّهُ، وَحُبُّ الغَيْرِ، وَالتَّعَاوُنُ وَالرَّحْمَةُ وَالبِرُّ، وَغَيْرُهَا الكَثِيرُ مِمَّا يَعْتَبِرُهُ الأَخْلَاقِيُّونَ عَادَةً فِي تَعَامُلِهِمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَمَعَ رَبِّهِمْ وَمَعَ الآخَرِين
الحَيَاءُ: يَفْهَمُ كَثِيرُونَ الحَيَاءَ عَلَى أَنَّهُ الخَجَلُ، وَهَذَا مَفْهُومٌ ضَيِّقٌ لَهُ؛ فَالحَيَاءُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ مِنْ هَذَا، فَالحَيَاءُ هُوَ الخَجَلُ مِنْ فِعْلِ المُحَرَّمَاتِ وَكُلِّ مَا يُغْضِبُ اللَّهَ، فَالإِنْسَانُ الحَيِيُّ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي يُوَجِّهُهُ ضَمِيرُهُ الحَيُّ فِي كُلِّ تَصَرُّفَاتِهِ. وَلَيْسَ مَعْنَى الحَيَاءِ البُعْدَ عَنْ مُوَاجَهَةِ النَّاسِ؛ فَقَدْ كَانَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ يَخْرُجْنَ لِيَتَعَلَّمْنَ وَيَسْأَلْنَ فِي الدِّينِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ؛ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ». كَمَا أَنَّ الحَيَاءَ الَّذِي يَعْنِي البُعْدَ يُعْتَبَرُ عَقَبَةً فِي طَرِيقِ التَّعَلُّمِ، حَيْثُ قِيلَ: «لا يَتَعَلَّمُ العِلْمَ مُسْتَحٍ، وَلَا مُسْتَكْبِرٌ». أَمَّا الحَيَاءُ بِمَعْنَاهُ الإِيمَانِيِّ الوَاسِعِ هُوَ سُلُوكُ أَيِّ طَرِيقٍ لِلْعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ وَالحَقِّ، وَالبُعْدُ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَمُغْضِبٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِذَا عَلَيْنَا أَنْ نُرَبِّيَ أَوْلَادَنَا عَلَى الحَيَاءِ بِمَعْنَاهُ الحَقِيقِيِّ؛ لِيَكُونُوا عَصَبَ الأُمَمِ الرَّاقِيَةِ وَأَسَاسَ حَضَارَاتِهَا.
حُبُّ الْآخَرِينَ: مِنْ قَوَاعِدِ الأَخْلَاقِ قَاعِدَةٌ رَاسِخَةٌ هِيَ حُبُّ الْآخَرِينَ وَاحْتِرَامُ مُمْتَلَكَاتِهِمْ وَمُقَدَّسَاتِهِمْ، فَذُو الخُلُقِ لَا يَتَعَدَّى عَلَى غَيْرِهِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ لِدِينِهِ أَوْ لِمُعْتَقَدَاتِهِ، أَوْ حَتَّى لِأَعْرَافِهِ، فَاحْتِرَامُ الْآخَرِينَ أَصْلُ الأَخْلَاقِ. وَقَدِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَكَانُوا يُجَاهِدُونَ لَيْلَ نَهَارَ فِي سَبِيلِ إِبْعَادِ النَّاسِ عَنِ الضَّلَالِ وَتَوْجِيهِهِمْ نَحْوَ السَّعَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الآبَاءِ فَهُمْ يُكَابِدُونَ طَوَالَ حَيَاتِهِمْ مِنْ أَجْلِ حَيَاةٍ سَعِيدَةٍ لِأَوْلَادِهِمْ، وَهَذِهِ غَرِيزَةٌ فِيهِمْ. وَحُبُّ الْآخَرِينَ لَيْسَ مَعْنَاهُ إِنْكَارَ الذَّاتِ، بَلْ مَعْنَاهُ تَرْبِيَةُ النَّفْسِ لِحُبِّ نَفْسِهَا وَحُبِّ غَيْرِهَا، فَلَا تَسُودُ الأَنَانِيَّةُ وَالوَحْشِيَّةُ.
الصَّبْرُ: هُوَ صِفَةُ المُؤْمِنِينَ العَارِفِينَ بِاللَّهِ. وَقَلِيلٌ مَنْ يَسْتَطِيعُ الِاتِّصَافَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَجْزِي عَلَيْهَا، حَيْثُ اجْتَمَعَتِ الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ يَعْقُبُهُ الفَرَجُ، وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى البَلَاءِ يُجَازِي اللَّهُ عَلَيْهِ عَبْدَهُ بِالجَنَّةِ، فَالصَّبْرُ مِنْ أَرْوَعِ الصِّفَاتِ، وَيُعَدُّ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ.
الصِّدْقُ: وَهُوَ أَرْقَى الصِّفَاتِ الأَخْلَاقِيَّةِ، وَمَنْ يَتَّصِفْ بِهِ يَفُزْ بِثِقَةِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَرِضَا اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَالصِّدْقُ يَنْبُعُ مِنْ دَاخِلِ الإِنْسَانِ فَيَكُونُ الإِنْسَانُ صَادِقًا مَعَ نَفْسِهِ، يَعْرِفُ مَوَاطِنَ قُوَّتِهِ وَمَوَاطِنَ ضَعْفِهِ، وَلَا يَصِفُ نَفْسَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، فَالصِّدْقُ مَعَ النَّفْسِ أَسَاسُ النَّجَاحِ العِلْمِيِّ وَالعَمَلِيِّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ مَعَ النَّاسِ، وَحُبُّ النَّاسِ لِلصَّادِقِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ : «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا» [رَوَاهُ النَّسَائِيُّ].
الأَمَانَةُ: وَهِيَ الصِّفَةُ الأَثْقَلُ وَزْنًا فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَيَتَحَلَّى بِهَا الصَّادِقُونَ، حَيْثُ تَرْتَبِطُ بِالصِّدْقِ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا، فَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ : «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ]. وَفِي هَذَا الأَمْرِ مَنْهَجٌ لِلْحَيَاةِ؛ حَيْثُ حَثَّنَا الرَّسُولُ الأَمِينُ عَلَى أَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَلَّا نَخُونَ الخَائِنَ، وَفِي هَذَا نَشْرٌ لِحَيَاةٍ إِنْسَانِيَّةٍ سَالِمَةٍ مِنَ الضَّغَائِنِ وَالِانْتِقَامِ.
الكَرَمُ: ضِدُّ البُخْلِ وَالشُّحِّ، وَلِلْكَرَمِ مَكَانَةٌ عَالِيَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْجُودِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُودُ بِمَالِهِ لِإِطْعَامِ الفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُودُ بِوَقْتِهِ لِقَضَاءِ حَاجَةِ النَّاسِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُودُ بِرُوحِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ عَطَاءٍ وَأَعْظَمُ الأَخْلَاقِ.
الإِيثَارُ: وَهِيَ أَسْمَى صِفَةٍ فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَيُقْصَدُ بِهَا أَنْ يُعْطِيَ الإِنْسَانُ شَيْئًا لِأَخِيهِ وَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا تَهْذِيبٌ لِلنَّفْسِ وَسَعْيٌ لِرِضَا اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَهُنَاكَ الكَثِيرُ وَالكَثِيرُ مِنَ الصِّفَاتِ الرَّائِعَةِ الَّتِي حَثَّتْ عَلَيْهَا جَمِيعُ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَجَدِيرٌ بِالذِّكْرِ أَنَّ الأَخْلَاقَ مَزِيجٌ مِنَ الِاكْتِسَابِ وَالوِرَاثَةِ، فَلَوْ وُلِدَ إِنْسَانٌ لِأَبٍ وَجَدٍّ كَرِيمَيْنِ، فَحَرِيٌّ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ الكَرَمُ عِنْدَهُ سَجِيَّةً وَطَبْعًا يُعْرَفُ بِهِ، حَيْثُ وَرِثَهُ مِنْ آبَائِهِ، وَقَدْ يُولَدُ الإِنْسَانُ لِأَبٍ شَحِيحٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعِشْ مَعَهُ وَعَاشَ بَيْنَ أُنَاسٍ كِرَامٍ، فَإِنَّهُ سَيَكْتَسِبُ الكَرَمَ مِنَ البِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا وَيَتَطَبَّعُ بِهِ، وَالنَّفْسُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى تَهْذِيبٍ دَائِمًا حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا}وَالطَّبْعُ فِي أَغْلَبِ الأَحْيَانِ أَفْضَلُ مِنَ التَّطَبُّعِ، فَالطَّبْعُ جِبِلَّةٌ يُجْبِلُ اللَّهُ الإِنْسَانَ عَلَيْهَا، أَمَّا التَّطَبُّعُ فَهُوَ عَارِضٌ لِمَعْرِفَةِ أُنَاسٍ وَمُعَاشَرَتِهِمْ.
قَالَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى حُبِّ الرِّضَاعِ، وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ مَنْ هَذَّبَ نَفْسَهُ عَلَى خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الخَيْرِ، صَارَتْ فِطْرَةً فِيهِ وَطَبْعًا وَلَيْسَ تَطَبُّعًا؛ لِهَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ وَالمُعَلِّمِينَ وَالقَادَةِ وَالرُّؤَسَاءِ أَنْ يُهَذِّبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُؤَصِّلُوا الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةَ فِيهِمْ حَتَّى تَصِيرَ جِبِلَّةً وَفِطْرَةً، وَمِنْ ثَمَّ سَيَأْخُذُهَا عَنْهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ بِالوِرَاثَةِ، وَسَيَأْخُذُهَا عَنْهُمُ السَّامِعُونَ وَالمُعَاشِرُونَ لَهُمْ بِالِاكْتِسَابِ، وَكَمَا قَالَ السَّلَفُ: (مَنْ شَابَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ).
وَبِهَذَا نَضْمَنُ خُرُوجَ جِيلٍ نَشَأَ عَلَى الأَخْلَاقِ وَتَرَبَّى عَلَيْهَا وَتَخَلَّقَ بِهَا، جِيلٍ يَعْرِفُ مَعْنَى الحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالمُرُوءَةِ وَالكَرَمِ، جِيلٍ يَحْتَرِمُ الْآخَرِينَ حَتَّى وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الدِّينِ، جِيلٍ يُمَجِّدُ العِلْمَ وَيَمْقُتُ الجَهْلَ، وَكُلُّ هَذَا لَا سَبِيلَ لِتَحْقِيقِهِ إِلَّا بِالتِزَامِ الأَخْلَاقِ وَالتَّمَسُّكِ بِهَا.
وَبِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ يُمْكِنُنَا تَعْرِيفَ الأَخْلَاقِ بِأَنَّهَا الضَّمِيرُ الإِنْسَانِيُّ النَّابِضُ بِحَيَاةٍ إِنْسَانِيَّةٍ كَرِيمَةٍ، تَعْلُو فِيهَا كَلِمَةُ الحَقِّ وَالبِرِّ وَالخَيْرِ، وَيَسْقُطُ فِيهَا الِاعْتِدَاءَاتُ وَالِانْتِهَاكَاتُ وَالجَهْلُ وَالعَصَبِيَّةُ.
فَهَيَّا بِنَا نَرْفَعُ شِعَارَ:
الأَخْلَاقَ الأَخْلَاقَ سَبِيلُ الحَيَاةِ الكَرِيمَةِ. إِيَّاكَ وَالجَهْلَ وَالعَصَبِيَّةَ.
نِعْمَ الأَخْلَاقُ الصِّدْقُ. بِئْسَ الرَّجُلُ الكَذَّابُ.
-
-
Audio
-